جرعات من الشك والتردد!!
جرعات من الشك والتردد!!
نور رياض عيد
حمل سلاحه وقال بأعلى صوته: الله أكبر.. الله أكبر، ثم أطلق
رصاصات فأردى مسلمًا قتيلًا، دون أي محاكمات أو إحضار بيّنات أو عقدٍ لمجلس قضاء، على
الرغم من فداحة فعله فليست الغرابة في القتل، لكن العجب –كل العجب- كان في تلك الثقة
التي يحملها في صدره التي تجعله يوقن: أن المقتول في النار، وأن هذا القتل هو طريقه
نحو الجنان، ومصدر الثقة فتوى قرأها في كتاب أو سمعها من شيخ أو انتشرت بين أفراد
جماعته.
من أخطر المشكلات التي نعاني منها اليوم تلك الوثوقية التي تعسكر
في صدورنا، فلا تردد لدينا ولا مراجعة، بل إن الأمور وصلت لدينا حد القطع واليقين
الذي لا يقبل الشك والسؤال، على الرغم من اعترافنا بضحالة فكرنا وقلة علمنا.
نحن بحاجة ماسة اليوم إلى جرعات كبيرة من الشك والتردد
والتفكير والتروي، نحتاج اليوم لمن يزعزع ثقتنا بأفكارنا، ويحررنا من أطواق
الوثوقية التي تأسرنا وتخنقنا.
قد يسأل سائل: هل لديك شك في دينك يا هذا؟ أتشك في الإسلام؟
أجيبه: حنانيك عليّ أيها العزيز، فأنا أحمد الله على نعمة
الهداية للإسلام، لكن شكوكي: هل الفكر الذي أحمله في رأسي هو الإسلام الذي يريده
الله؟ هل الحزب الذي أنتمي له هو الأقرب للحق؟ هل طريقة تفكيري هي التي يريدها
الله؟ أهذا المذهب الذي أرجحه وهذا القول الذي أتبناه هو ما يرضي ربي عني؟
نحن بحاجة إلى أن نتحرر من مرض التألي على الله، ذلك الذي
يسكن بعضنا، فقد يفتي ويكفر ويقتل وكأن الله قد أطلعه على الغيب، وكأن الحقيقة
المطلقة أمست في جيبه الصغيرة.
ما أحوج عقولنا الصغيرة الضعيفة إلى أن تفهم هذه النصوص:
-
"اهدنا الصراط المستقيم": مع أنك مسلم وتقف بين يدي مولاك
مصليًا، إلا أنه أمرك أن تطلب الهداية في كل ركعة.. في كل لحظة تأخذ فيها قرارًا،
ماذا سيحدث بك لو حرمك ربك الهداية؟ لذلك كان من دعائه عليه الصلاة والسلام:
"يا حي يا قيوم برحمتك
أستغيث, أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين".
-
ولنقرأ هذا الحديث الذي يهز القلوب والعقول، فقد
روى البخاري في صحيحه أَنَّ أُمَّ العَلاَءِ -امْرَأَةً مِنَ الأَنْصَارِ - قالت:
أَنَّهُ اقْتُسِمَ المُهَاجِرُونَ قُرْعَةً فَطَارَ لَنَا عُثْمَانُ بْنُ
مَظْعُونٍ، فَأَنْزَلْنَاهُ فِي أَبْيَاتِنَا، فَوَجِعَ وَجَعَهُ الَّذِي
تُوُفِّيَ فِيهِ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ وَغُسِّلَ وَكُفِّنَ فِي أَثْوَابِهِ، دَخَلَ
رَسُولُ اللَّهِ r،
فَقُلْتُ: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ، فَشَهَادَتِي عَلَيْكَ:
لَقَدْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ r:
«وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَكْرَمَهُ؟» فَقُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ يَا
رَسُولَ اللَّهِ، فَمَنْ يُكْرِمُهُ اللَّهُ؟ فَقَالَ: «أَمَّا هُوَ فَقَدْ
جَاءَهُ اليَقِينُ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُو لَهُ الخَيْرَ، وَاللَّهِ مَا
أَدْرِي، وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ، مَا يُفْعَلُ بِي» قَالَتْ: فَوَاللَّهِ لاَ
أُزَكِّي أَحَدًا بَعْدَه.
صلى عليك الله يا سيدي
يا رسول الله، كم غابت هذه المعاني عن أمتك اليوم! تسأل صحابية مستنكرًا: «وَمَا
يُدْرِيكِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَكْرَمَهُ؟» مع أن الصحابي هو عثمان بن مظعون التقي
العابد، فما بالنا اليوم نقطع يقينًا أن أفكارنا هي الحق، وأن من يخالفنا على باطل؟!
وأن أتباعنا هم جند الله وأن من يخالفنا الرأي هم أهل بدع وضلال؟!
·
روى البخاري عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ، أَنَّ
رَجُلًا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ r
كَانَ اسْمُهُ عَبْدَ اللَّهِ، وَكَانَ يُلَقَّبُ حِمَارًا، وَكَانَ يُضْحِكُ
رَسُولَ اللَّهِ r،
وَكَانَ النَّبِيُّ r
قَدْ جَلَدَهُ فِي الشَّرَابِ، فَأُتِيَ بِهِ يَوْمًا فَأَمَرَ بِهِ فَجُلِدَ،
فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ: اللَّهُمَّ العَنْهُ، مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى
بِهِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ r:
«لاَ تَلْعَنُوهُ، فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ إِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ»
فرُبّ إنسان ترى أنه لله عاصٍ، يكون قلبه بربه معلقًا أكثر منك وأنت الذي ترى نفسك
عابدًا.
هذا المقال ليس فتوى، ولا يهدف لإصدار أحكام ضد
أحد، وليس موجهًا لفئة دون أخرى، إنما هو دعوة للتريث والتروي والبحث والدراسة
وترك إساءة الظن بالآخرين، وهو همسة لي ولك أن يردد كل واحد منا من أعماق قلبه:يا
رب ارحم عبدًا طلب رضاك، وأتعب نفسه في البحث عن الحق.. يا رب لا تجعلني من الذين
ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا.. اللهم أرني الحق حقًا
وارزقني اتباعه، وأرني الباطل باطلًا وارزقني اجتنابه!!
جزاك الله خيرا يا شيخنا
ردحذف