تنازل لتكسب!!

تنازل لتكسب!!
نور رياض عيد

يبدو أن طول أمد الصراعات التي نحياها في عالمنا الإسلامي، وكثرة الاتهامات التي نوجهها لبعضنا البعض بالتنازل والتفريط في الحقوق، جعلتنا نصاب بعقدة الخوف من التنازلات، والتعامل مع كل شيء على أنه من الثوابت التي لا يجوز التنازل عنها، حتى أمسينا ننظر للتسامح على أنه نوع من إهدار الكرامة، وهذا أورثنا حالة من الاحتقان والكراهية والتصلب والشدة في مواطن كانت تتطلب منا اللين والرفق، وجعلتنا نقع ضحية لتعظيم أمور كان من الواجب أن تكون صغيرة محدودة.
والحقيقة أن هناك أمورًا كثيرةً يكون فيها التنازل أفضل من التصلب والتشنج، ويكون الأذكى والأتقى هو الأكثر تنازلًا فيها، خاصة في مجال العلاقات الاجتماعية التي يستهدفها المقال بالدرجة الأولى، فليس الذكي هو الأكثر تصلبًا على مواقفه، بل هو الأكثر تسامحًا وعفوًا وصفحًا.
فكم من مشكلةٍ صغيرةٍ صارت كبيرةً لرفض أحد الطرفين أن يتنازل عن شيء بسيط! وكم من أسرة هدمت بعد أن كانت هانئة سعيدة لرفض أحد الزوجين أن يتنازل عن شيء تمضي رحلة الحياة بدونه! وكم من صلات قطعت بسبب دراهم معدودة لو تنازل أحدنا عنها لكسب قلبًا!
وإن لم تعجبك كلمة "التنازل" فأطلق المصطلح الذي ترتاح إليه، فالعبرة بالمضامين وليس بالعناوين كما يقال.
ومن الأحاديث التي تدعم هذا المعنى ما رواه الإمام البخاري في صحيحه عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لاَ يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ، يَلْتَقِيَانِ: فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلاَمِ" ففي حالة الخصومة يكون الأفضل والأكثر ثوابًا هو الذي لا ينتصر لنفسه، بل يأتي ليقدم تنازله النفسي ويعض على جراح مشاعره فيسلم على أخيه، وقد يكون هو صاحب الحق.
ولنتأمل هذا التنازل والتغاضي الذي أورث صاحبه جنة عرضها السماوات والأرض، فعن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: "كَانَ تَاجِرٌ يُدَايِنُ النَّاسَ، فَإِذَا رَأَى مُعْسِرًا قَالَ لِفِتْيَانِهِ: تَجَاوَزُوا عَنْهُ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنَّا، فَتَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُ" ويا لجمال هذا التجاوز!!
نحن بحاجة شديدة للتخفيف من حالة الاحتقان التي نحياها في حياتنا الاجتماعية، وأن نتذكر وصف القرآن للمؤمنين بأنهم: "أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ"، فالتنازل في علاقاتنا الأسرية بين الزوجين للحفاظ على سفينة الحياة الزوجية هو صعود وسمو، وليس جبنًا، والتنازل في علاقاتنا الأخوية هو أجر وإيمان، وليس ضعفًا.
وما أجمل قول الشاعر:
لما عفوت ولم أحقد علي أحد            أرحت نفسي من حمل العداوات
إني أحيي عدوي عند رؤيته                لأدفع الشر عني بالتحيات

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

السخرية من سن التسعين!!

إيثار.. لا يخطر على بال!!

هل يجوز رفع صوت الراديو بالقرآن الكريم إذا كان يؤذي الجيران؟