حجوا تموتوا: أهذا مقصد الحج؟!

حجوا تموتوا: أهذا مقصد الحج؟!
نور رياض عيد

إنه لسؤال محرج أن يوجهه شخص غربي إليك قائلًا: ما هذا الدين الذي يرسل أتباعه كي يموتوا في السعودية؟! وهل الموت مقصد من مقاصد الحج لديكم يا مسلمون؟
وإني أسابق القارئ المستهتر بمثل هذه الأسئلة، ويعتبر ذلك خوفًا من الغرب، فأقول: إن رسول الإسلام عليه الصلاة والسلام رفض أن يقتل من يستحق القتل خوفًا على سمعة الإسلام، وقال لمن طلب منه قتل ابن سلول رأس النفاق: "دَعْهُ، لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ" متفق عليه.
يريد بعض المسلمين أن يقنعنا أن الله يريد لنا أن نموت في الحج، وأن من يقتل من الحجاج وسط الزحام تحت الأقدام قد حقق أسمى المنى.. وأن علينا ألا نعزو موت الأعداد الكبيرة من الحجاج إلى تقصير أو استهتار.. بل هو إرادة الله وقضاؤه فقط... وإذا كنا نتألم من حوادث موت الحجيج فإن ما يؤلمنا أكثر هو الخطاب الذي يصدر عن الأمة بعد هذه الحوادث.
وعند النظر في مقاصد الحج وأهدافه نجد العكس تمامًا، فالحج رسالة حياة وليس رسالة موت.. الحج يبعث في الأمة معاني السلام والطمأنينة والراحة... الحج فيه ماء زمزم الذي أحيا الصحراء.. الحج تستشعر فيه عظمة الكعبة ثم تعلم أن هذه العظمة شيئًا صغيرًا أمام عظمة الروح الإنسانية..
إن الحج يعلمنا كيفية التعايش السلمي ليس مع البشر فحسب، بل مع جميع الكائنات، يقول الشهيد سيد قطب: "إنها منطقة الأمان يقيمها الله للبشر في زحمة الصراع.. إنها الكعبة الحرام، والأشهر الحرام، تقدم في وسط المعركة المستعرة بين المتخاصمين والمتحاربين والمتصارعين والمتزاحمين على الحياة ..."، "إنها منطقة السلام والسماحة في ذلك المصطرع، حتى ليتحرج المحرم أن يمد يده إلى الطير والحيوان، وهما -في غير هذه المنطقة- حل للإنسان، ولكنهما هنا في المثابة الآمنة.. في الفترة الآمنة.. في النفس الآمنة.. إنها منطقة المرانة والتدريب للنفس البشرية لتصفو وترق وترف فتتصل بالملأ الأعلى وتتهيأ للتعامل مع الملأ الأعلى.. ألا ما أحوج البشرية المفزَّعة الوجلة، المتطاحنة المتصارعة.. إلى منطقة الأمان، التي جعلها الله للناس في هذا الدين، وبينها للناس في هذا القرآن!"
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصًا كل الحرص على الحفاظ على أرواح الناس في موسم الحج، وقد كانت المشقة التي تقع بالحجاج في أداء شعائرهم سببًا في أن يكثر النبي عليه السلام من الرخص والتسهيلات، ومن ذلك:
·       جاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم ما سئل عَنْ شَيْءٍ- في يوم منى- قُدِّمَ وَلاَ أُخِّرَ إِلاَّ قَالَ: "افْعَلْ وَلاَ حَرَجَ".
·       عند الدفع من عرفة، ينادي النبي عليه السلام على الناس الذين يريدون التحرك مسرعين، -وقد يؤذي بعضهم بعضًا- قائلًا: " «أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ فَإِنَّ البِرَّ لَيْسَ بِالإِيضَاعِ –السرعة-» رواه البخاري، فالبر الذي هو مقصود الحج لا يتحقق بالسرعة وتحطيم الناس، ودهسهم تحت الأقدام، بل يحدث بالسكينة والهدوء والرفق كي يشعر الإنسان بالسمو الروحي.
·       إن المشقة ليست مطلوبة لذاتها، فإن الله غني عن تعذيبنا لأنفسنا، لذلك حينما رأى رسول الله عليه السلام شيخًا يمشي معتمدًا على ولديه، سأل: ما بال هذا؟ فقالوا: نذر الحج ماشيًا، قال: "إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغني"، وأمره أن يركب.. كما جاء في الصحيحين.
·       إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "رَخَّصَ لِلرِّعَاءِ أَنْ يَرْمُوا يَوْمًا، وَيَدَعُوا يَوْمًا"، وفي رواية أخرى أنه رخص للرعاء أن يرموا بالليل، وأي ساعة من النهار شاءوا، وهذا من أجل الحفاظ على حياة حيواناتهم من الغنم والإبل، فما بالكم بحياة البشر؟!
وحول معاني التيسير ورفع الحرج والحفاظ على الإنسان في الحج كتب الدكتور سلمان العودة كتيبه المهم: "افعل ولا حرج" الذي أنصح من يرغب الاستزادة بقراءته.
ما الحل؟؟!!
لعل قائلًا يقول: كل المعاني التي ذكرتها نتفق عليها.. لكن ما الحل لديك والعدد كبير؟
هناك حلول كثيرة، وأقول: لسنا بحاجة إلى إبداع في الوصول إلى الحلول، بل نحن بحاجة إلى نقل تجارب الآخرين فقط، ولا يظن أحد المسلمين أن المكان الوحيد في العالم الذي يجتمع فيه هذا العدد هو مكة المكرمة، بل هناك أماكن كثيرة يجتمع فيها أعداد كبيرة.. ومن الحلول البسيطة التي أقترحها، وقد اقترحها قبلي عدد من الكتاب والباحثين:  
1* لماذا يسمح لكثير من المسلمين بالحج مرات عديدة في فترات متقاربة مما يؤدي إلى ازدحام شديد؟ وستصعق حينما تقرأ هذه العبارة للدكتور القرضاوي عن الحج في أحد الأعوام: "والذين لم يحجوا قبل ذلك-أي نسبة الذين يحجون لأول مرة- لا يكوِّنون من مجموع الحجيج أكثر من 15%، فإذا كان الحجاج نحو مليونين، فإن الذين يحجون منهم – عادة- لأول مرة، لا يزيدون غالبًا عن ثلاثمائة ألف" [في فقه الأولويات: ص16، 17].. وإضافة إلى أن من يكرر الحج مرات عديدة يحرم غيره، "زد على ذلك المعاناة السنوية بالازدحام الهائل الذي يفقد الفريضة روحانيتها وقدسيتها، ويحيلها إلى صخب وضجيج وعراك وجدل، ويتكرر المشهد دوريًّا، ويموت المئات تحت أقدام إخوانهم، وهم جميعًا متلبسون بأداء فريضة من فرائض الله! و يا للحزن العميق!" كما يقول د. سلمان العودة.. لماذا لا يتم تقليل الأعداد ما دمنا غير قادرين على إدارتهم بطريقة صحيحة تحميهم من الموت؟!
2* لماذا هذا التقصير الواضح في تطوير مكة المكرمة مثلًا؟ (هناك تطوير جيد في الحرمين لا ينكره من زار تلك الديار لكنه ليس التطوير المطلوب لمن يعرف أين وصل العالم المعاصر اليوم؟!) لكنك لو ابتعدت عن الحرم قليلًا ومشيت في شوارع وحواري مكة لجرح قلبك أنها غير نظيفة!! ولو شاهدت المواصلات وعايشت استغلال السائقين وكيفية ركوب الفقراء على سقوف الباصات لتألمت كثيرًا!! وإلى اليوم لا يوجد قطار يربط بين مكة والمدينة، ويقال أنه سيفتتح في العام القادم! علمًا أن هذه المسافة التي تقطع في ساعات طويلة (6-8) ساعات تقطعها القطارات اليابانية الحديثة في نصف ساعة.
3* لماذا لا تشرف المملكة العربية السعودية بنفسها على تعليم الحجاج أخلاقيات الحج ومعانيه الروحية السامية، هناك شعوب معروفة بالجهل بأمور الحج، لذلك ترى حجاجها يتعاملون مع تأدية المناسك وكأنهم في حلبة مصارعة؟ وهي شعوب معروفة، فلا أقل من أن ترسل السعودية لتلك الدول من يدربهم ويعلمهم، أو تشترط على تلك الدول أن يحصل الحجاج على تدريب يليق بمكانة تلك الشعيرة قبل المجيء؟ وعلينا أن نستفيد من التجربة الماليزية في تدريب الحجاج، فالحاج الماليزي يتدرب لمدة سبعة عشر يومًا قبل سفره لأداء المناسك.
4* على السعودية أن توقف سيل الفتاوى المتشددة التي تصدر عن بعض مشايخها طوال الموسم، وأن تقلل من طباعة الفتاوى والكتيبات التي تخيف الناس وتدفعهم للإصرار على الأخذ بأشد الأقوال خوفًا على عبادتهم، فهناك فتاوى معتدلة واقعية تقدر  واقع الناس اليوم -لعلماء سعوديين وغير سعوديين- ينبغي أن تنشر وتدعم طباعتها.
ختامًا/ أسأل الله أن يرحم الحجاج الذين قضوا نحبهم،، وأسأله تعالى أن يلهم أهلهم الصبر والثبات،، وأسأله أن يعين النظام السعودي على خدمة ضيوف الرحمن،، وأن ييسر لهم الوقوف عند الأخطاء ومعالجتها في الأعوام المقبلة.
وأستغفر الله إن صدر مني أي خطأ فيما كتبت، اللهم ألهمني رشدي وقني شر نفسي!!

تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

السخرية من سن التسعين!!

إيثار.. لا يخطر على بال!!

هل يجوز رفع صوت الراديو بالقرآن الكريم إذا كان يؤذي الجيران؟