الحرية وعلاقتها بتطبيق الشريعة. [الحلقة الثالثة]

الحرية وعلاقتها بتطبيق الشريعة. [الحلقة الثالثة]
نور رياض عيد
[قدمت هذه الورقة لليوم الدراسي الذي بعنوان: فقه الحريات، الذي نظمته كلية الدعوة بدير البلح]                                                              

لماذا الحرية قبل تطبيق الشريعة وأثناء التطبيق؟
مما سبق يتضح لنا أن سيادة الشعوب وحريتها تقدم زمانيًا –ليس تقديم أفضلية- على تطبيق الشريعة الإسلامية، مع التأكيد على أن الحرية جزء أساس من الشريعة، فنحن لسنا أمام نظامين مختلفين؛ بل تعد الحرية ركيزة أساسية في الحكم الإسلامي، ويرى الباحث أن هناك مجموعة من الأسباب تبين ذلك:
أولًا: لو نظرنا في الأحكام الشرعية لوجدنا أن جزءًا كبيرًا ليس متعلقًا بالحاكم والدولة؛ بل يقوم بتطبيقه مجموع الشعب أو الأمة، وإذا كانت الأمة مسلوبة الإرادة؛ فإن جزءًا كبيرًا من الشريعة لن يطبق.. وهذا الأمر واضح في التاريخ الإسلامي، فإن الأمة ابتليت بحكام لم يكونوا على قدر المسئولية، ولكن الشريعة الإسلامية استمرت مزدهرة في جوانب متعددة، "فالشريعة أكبر شأنًا من أن يكون مصيرها، وتطبيقها، وتعطيلها بيد حفنة من الحكام والولاة، وتحت رحمتهم وتقلباتهم.. نعم للشريعة أحكام جنائية ومدنية، ولكن هذه الأحكام جزء من الشريعة، وليست كل الشريعة، وليست رمزًا للشريعة"[1].
إن تطبيق الشريعة الإسلامية لا يعني تطبيق الحدود فقط؛ بل إن حصر التطبيق في الحدود يعد ظلمًا وتقزيمًا للشريعة العظيمة، هذه الشريعة التي جاءت لإصلاح الحياة كلها، لذلك؛ فإن هذه الشريعة لا يسعى لتطبيقها، ولا يقدر على ذلك إلا المجتمع الإسلامي كله، فالنهضة العلمية، والطبية، والتقنية، والاقتصادية، والسياسية يصنعها أبناء الشعب على اختلاف تخصصاتهم ومجالاتهم، وهم يجمعون القطرة إلى القطرة، والنجاح إلى النجاح، والإنجاز إلى الإنجاز، وهذا كله لا يمكن أن يتحقق إذا شعر المواطنون بعدم الانتماء لهذا الوطن؛ لأن السلطة الحاكمة سلطة مستبدة ديكتاتورية، لم تأتِ عبر اختيارهم، بل جاءت غصبًا عنهم.
ثانيًا: إن القهر، والإكراه، والإرهاب لا ينتج عنه إلا نفاقٌ وإيمانٌ مزيف، وليس ذلك الإيمان الذي إذا لامست بشاشته القلوب فعل فِعْلَ السحر في الأنفس والمجتمعات، وما ارتفعت راية الإسلام عالية خفاقة إلا بأولئك المؤمنين الذين اختلط حب الدين بدمائهم وعظامهم، ففدوه بكل ما يملكون، والإسلام يجعل مراقبة المسلم لربه في السر والعلن هي الضامن الأول لتطبيق تعاليمه، ويغرس في نفوس أتباعه الخوف من رقابة الضمير قبل رقابة الأمير، وقد عرّف النبي صلى الله عليه وسلم الإحسان بقوله: "أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاك"[2].
ثالثًا: إن السلطة الحاكمة لا تستورد من الخارج، بل هي من أبناء الشعب، لذلك؛ فإن الشعب المسلم الملتزم ينتج حكومة مثله، فالدولة لا تغرس الإيمان في القلوب، لكنها تصنع مُناخًا يعين على الالتزام، ويشجع على الطاعة، لذلك عدّ الشيخ القرضاوي أن "من الأولويات المهمة في مجال الإصلاح: العناية ببناء الفرد قبل بناء المجتمع، أو بتغيير الأنفس قبل تغيير الأنظمة والمؤسسات"[3].
رابعًا: لا نبالغ إذا قلنا: إن التطبيق الحقيقي للشريعة لا يكون إلا إذا منح الإنسان حريته، وإن كل تضييق على حرية الإنسان هو نقص في تطبيق الشريعة، ونحن "لن نقدم الإسلام نقيًا كما أنزل على محمد عليه الصلاة والسلام حتى يكون محرِّرًا للإنسان من كل قيد أو تبعية، ولن تثمر دعوات تطبيق الشريعة، والإنسان –محل التطبيق- يرسف في أصفاد الاستبداد[4].
خامسًا: إن إحدى وظائف الدولة في الإسلام هي إيصال الدعوة للبشرية، وإذا كانت الحرية هي القيمة العليا التي يتغنى بها عالم اليوم، وهي ما يتمناه الناس ويطمحون إليه ويسعون للوصول إليه؛ فإن المرء يتساءل: كيف يقدم المسلمون دينهم للعالمين؟ وكيف يقبل الغربيون الدخول في دين سيسلبهم حرياتهم؟ وقد اعتادوا قبل إسلامهم أن يختاروا الحاكم بأنفسهم، وأن يمنعوا أي حاكم من اغتصاب السلطة منهم، وعاشوا في دول تكفل لهم حرية الرأي، وحرية نقد الحاكم ومساءلته، بل المطالبة بعزله إن أخطأ، فهل سيدخل الغربيون في دين يعد أتباعه أن الإمام الذي جاء بانقلاب عسكري هو إمام شرعي تجب طاعته، ويجب الانصياع لحكمه؟ بل ويحرم نقده، ولا يجوز المساس بجنابه، ولا يسأل عما يفعل، وكل الرعية يسألون.
سادسًا: إن الواقع يقدم لنا دليلًا واضحًا على أهمية الحرية ودورها الرائد في بناء الأمم، فالشعوب التي تمنح الحرية في اختيار حكامها وأنظمتها، وتستطيع أن تحاسبهم وتعزلهم إذا أساؤوا هي شعوب متقدمة راقية، بينما الشعوب التي ترزح تحت نير الاستبداد تحتل ذيل القافلة الإنسانية بجدارة، روى الإمام مسلم أن الْمُسْتَوْرِد الْقُرَشِي قال وهو يجلس عِنْدَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: "تَقُومُ السَّاعَةُ وَالرُّومُ أَكْثَرُ النَّاسِ" فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو: أَبْصِرْ مَا تَقُولُ، قَالَ: أَقُولُ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: لَئِنْ قُلْتَ ذَلِكَ، إِنَّ فِيهِمْ لَخِصَالًا أَرْبَعًا: إِنَّهُمْ لَأَحْلَمُ النَّاسِ عِنْدَ فِتْنَةٍ، وَأَسْرَعُهُمْ إِفَاقَةً بَعْدَ مُصِيبَةٍ، وَأَوْشَكُهُمْ كَرَّةً بَعْدَ فَرَّةٍ وَخَيْرُهُمْ لِمِسْكِينٍ وَيَتِيمٍ وَضَعِيفٍ، وَخَامِسَةٌ حَسَنَةٌ جَمِيلَةٌ: وَأَمْنَعُهُمْ مِنْ ظُلْمِ الْمُلُوكِ"[5]، فالصفات المذكورة هي مؤهلات النصر، والصفة التي تعنينا هنا صفة القدرة على تقليم أظفار الملوك، ومنعهم من الظلم، ووضع حد لهم، وهذا لا يكون إلا في ظلال الحرية، وليس الأنظمة القمعية.
سابعًا: إن الحاكم لا يصبح في شرعنا حاكمًا يتمتع بشرعية دينية وسياسية إلا إذا بايعته أغلبية الأمة، وكلما ازدادت نسبة المؤيدين والراضين كان أفضل، وقد جاء في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خِيَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونَكُمْ، وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ، وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ وَيُبْغِضُونَكُمْ، وَتَلْعَنُونَهُمْ وَيَلْعَنُونَكُمْ[6] وهذا الحب هل يمكن أن يتحقق إذا كان الحاكم مغتصبًا لإرادة الجمهور؟! لذلك فإن أول أسباب حب الناس للحاكم أن يأتي عبر إرادتهم، وليس غاصبًا لها.
ثامنًا: إن ارتباط الشريعة بالحكم العسكري كما ظهر في بعض تجارب الحركات الإسلامية له عدة دلالات سياسية، إحداها إظهار الشريعة وكأنها بلا شعبية، ما تطلب اللجوء للحكم العسكري لتطبيقها بفعل القوة القيادية لا بفعل المطالبة القاعدية، كما أن ذلك يربط مصير الشريعة بالحكم العسكري وجودًا وعدمًا[7]، لأن الثورات عادة تكون ضد الحكام، وضد المبادئ والأفكار التي يحملونها، وبذلك تظهر الشريعة وكأنها ضعيفة مناقضة للفطرة الإنسانية، وبعيدة عن قلوب الجماهير.

الشورى من قواعد الشريعة..
إن مشاورة الجماهير بطريقة حضارية تعد صورة من صور الحرية، فهم يعبرون عن رأيهم، ويقدمون وجهة نظرهم في الأمور التي تحدث في بلدهم، لذلك كان من عادة العقلاء أن يستشيروا أولي الألباب قبل اتخاذ القرارات؛ لأن رأي الجماعة أقوى من رأي الفرد، وتتأكد المشورة إذا تعلق الأمر بمصلحة الناس أنفسهم، فمن حق الناس أن يشاركوا في صنع القرار المتعلق بهم، فالوطن للجميع، ولا يحق لأحد أن يستفرد بمصيره ومستقبله، والناس في العادة تلتزم، وتدافع بقوة عن القرار الذي استشيرت فيه، ومشاورة الناس تذهب ضغن قلوبهم، وتطيب أنفسهم، وتشعرهم بحب الرئيس لهم وثقته بهم[8]، لذا كان الأمر القرآني واضحًا للنبي r بمشاورة أصحابه، فقال تعالى: )وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْر..([9][سورة آل عمران: من الآية159]، يقول الإمام ابن عطية: "والشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام، ومن لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب، هذا ما لا خلاف فيه"[10].
ومن المهم ذكره أن الحاكم إذا سلك طريق الشورى يجب على الجميع احترام النتائج المترتبة على ذلك، ابتداءً من الحاكم، وانتهاءً بأي فرد من أفراد الرعية حتى لا تتحول الشورى إلى فوضى، لذلك لما شاور النبي r أصحابه في الخروج يوم أحد وكان رأي السواد الأعظم من أصحابه الخروج إلى أحد، أراد البعض أن يثنيه عن الخروج، قال: "لاَ يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ يَلْبَسُ لَأْمَتَهُ فَيَضَعُهَا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ"[11].
والشورى في الإسلام لا تترك للحاكم لتصبح وسيلة استبداد في يده كي يجيرها لصالحه، ولا تترك للشعب ليتخذها بعض الناس وسيلة لإحداث الفوضى متى أرادوا، "إن هذه السلطة الشعبية، وهذه الحقوق التي أعطاها الإسلام للشعب ليستقيم أمر الحكم، ويتم التوازن بين قوتي الشعب والحاكم لابد أن تصاغ في مؤسسات ونظم تُضبط بها، ويُتفق عليها، ويُلزم بها الحاكم وتتحدد فيها المسئوليات، وتُراعى فيها أوضاع المجتمع وتركيبه، ومراكز القوى فيه؛ لينتفي الاستبداد من طرف الحاكم، والفوضى وضياع المسئولية من طرف الشعب، وتنضبط بذلك الأمور"([12]).




[1])) الفكر الإسلامي وقضايانا السياسية المعاصرة: أحمد الريسوني، ص 107.
[2])) متفق عليه.
[3])) في فقه الأولويات: د. يوسف القرضاوي، ص 179.
[4])) تفكيك الاستبداد: محمد العبد الكريم، ص 7.
[5])) صحيح مسلم.
([6]) صحيح مسلم.
[7])) انظر: الحركة الإسلامية.. ثغرات في الطريق: د. عبد الله النفيسي، ص 127.
[8])) انظر: الجامع لأحكام القرآن: القرطبي، (4/250).
[9])) سورة آل عمران: من الآية 159.
[10])) المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز: ابن عطية الأندلسي، (1/534).
[11])) صحيح البخاري.
[12])) نظام الإسلام الحكم والدولة: المبارك، ص107.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

السخرية من سن التسعين!!

إيثار.. لا يخطر على بال!!

هل يجوز رفع صوت الراديو بالقرآن الكريم إذا كان يؤذي الجيران؟