الحرية وعلاقتها بتطبيق الشريعة الإسلامية [الحلقة الثانية]
الحرية
وعلاقتها بتطبيق الشريعة الإسلامية [الحلقة الثانية]
نور رياض عيد
[قدمت هذه الورقة لليوم الدراسي
الذي بعنوان: فقه الحريات، الذي نظمته كلية الدعوة بدير البلح]
لا للدولة
الدينية..
ومع ضرورة
الدولة في الإسلام، إلا أن السياسة الإسلامية ترفض فكرة الدولة الدينية
"الثيوقراطية" التي تقوم على فكرة أن الحاكم هو المُعبِّر عن الإرادة
الإلهية على الأرض، وأن الاعتراض على الحاكم هو اعتراض على حكم الله، فالإسلام
ينظر للحاكم على أنه بشر يصيب ويخطئ، وإذا أخطأ يجب على الأمة أن تصوب خطأه، وأن
تنصحه، وأن تعزله إذا انحرف، وحينما دخل أَبُو مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيُّ رضي الله
عنه عَلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ رضي الله عنهما، قال له:
"السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا الْأَجِيرُ"([1])،
فهو ينظر للخليفة على أنه مجرد موظف في الدولة.
والحاكم في
الإسلام تقدمه كفاءته، ويرقيه علمه وأداؤه، لذلك يرفض
الدين استخدام النصوص كسلاح يهاجم به علماء السلطان كل من ينتقد الحاكم، أو
استخدام النصوص من أجل إحاطة الحاكم بهالة من القدسية التي لا يجوز لأحد الاقتراب
منها، ويؤكد ذلك الحوار الذي دار بين أبي بكر الصديق والأنصار رضي الله
عنهم في سقيفة بني ساعدة في قضية البحث عن خليفة لرسول الله، فإن الكثير من
المصادر لم تذكر أن أبا بكر تترس بالنصوص أو أنه استعملها أو اعتمد عليها في إدارة
الحوار، بل أدار الحوار بأكبر قدر من الواقعية الاجتماعية، مع محاولة التشاور
لتقديم الأصلح([2]).
شرعية السلطة
الحاكمة..
إن الدولة
الإسلامية منذ نشأتها قامت على بيعة رضائية بين الحاكم والرعية، فبيعة العقبة
الأولى والثانية كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الأنصار، فحماية
الأنصار للرسول ومساهمتهم في حماية الدولة كانت بناء على عقد البيعة.
وقد كان الخلفاء يحرصون -كل الحرص- على أخذ البيعة من الناس،
لأنهم يعرفون أن شرعيتهم تنبع من البيعة، وعقد الإمامة هو أشبه بعقد الوكالة، يتم
بين الأمة وبين الرئيس([3])،
وحول اختيار أبي بكر الصديق رضي الله عنه خليفة لرسول الله عليه الصلاة والسلام،
يقول ابن تيمية: "ولو قدر أن
عمر وطائفة معه بايعوه، وامتنع سائر الصحابة عن البيعة، لم يصر إمامًا بذلك، وإنما
صار إمامًا بمبايعة جمهور الصحابة، الذين هم أهل القدرة والشوكة"، وكذلك يقول
في تولي عمر للخلافة: "وكذلك
عمر لما عهد إليه أبو بكر، إنما صار إمامًا لما بايعوه وأطاعوه، ولو قدر أنهم لم
ينفذوا عهد أبي بكر ولم يبايعوه لم يصر إمامًا.."([4]).
وإذا
كان بعض الفقهاء عدَّ أن التغلب هو أحد الطرائق الشرعية لتولي السلطة في الدولة
الإسلامية؛ فإن هذا أمرٌ يتنافى مع روح الإسلام، ولا يمكن القبول بمغتصب السلطة، لكن الحالة
الوحيدة التي بالإمكان فيها قبول حكم المتغلب هو من باب أخف الضررين، وأهون
الشرين، وليس مباركة هذا الحكم الغاصب، فإن الشورى من دعائم الإسلام، ومن لا يشاور
الناس وجب عزله، فكيف لنا أن نعد حكمه شرعيًا؟!
سيادة الأمة
أولًا..
إذا اختار
الأفراد الإسلام دينًا، وحرصوا على تطبيق تعاليمه في حياتهم، فكيف يجعلون مرجعية
الدولة التي يعيشون فيها هي الشريعة الإسلامية؟ إن ذلك لا يكون إلا إذا كانت
السيادة للشعب، أو للأمة.. وحين تكون الأمة صاحبة السيادة، فهي التي تلزم نفسها
بنفسها، عبر القانون الإسلامي الذي ترتضيه وفق التعاقد المشترك، وعبر حكومة
تنفيذية منتخبة تحتكر ممارسة الإلزام، وفق تفويض الأمة لها بهذا الاحتكار.
ومصطلح السيادة
هو مصطلح سياسي قانوني من حيث الأصل، له مفهومه المستقر المحدد، ويعرفونها بقولهم:
الإرادة الأعلى التي يمكن أن توجد في المجتمع، والأب الشرعي لهذا المصطلح هو
المفكر الفرنسي جان بودان الذي جعل السيادة في نطاق البشر سواء أكان الشعب كله، أم
طبقة منه، والسيادة بطبيعتها مفتقرة إلى الأشخاص الذين يملكون الإرادة والقدرة حتى
تتجسد على أرض الواقع.
وهذا يدفعنا
إلى القول: إن السيادة في المنظور الإسلامي ينبغي أن تكون
للأمة لا للفرد المتغلب، والشريعة مرجعية وليست سيادة، لأن المرجعيات لا
تمارس الفعل السياسي السلطوي، إلا بواسطة الفاعل السياسي البشري، لذلك لا يصح إضافة السيادة بمفهومها
السياسي إلى الله تبارك وتعالى، لأن الله تعالى منزه عن ذلك، ومنزه عن أن ينزل
بذاته العلية، ويقيم ملكه في الأرض ويحكم بين الناس([5]).
ماذا لو رفضت الأمة تطبيق الشريعة؟
مما
سبق يمكننا الوصول إلى النتائج التالية:
1- إن الإسلام دين ودولة، عقيدة وشريعة، ويرفض
الإسلام أن يحصر في دائرة التدين الفردي فقط، ويوجب على المسلمين إقامة الدولة
التي تطبق الإسلام.
2- يعد الإسلام الحاكم بشرًا يصيب ويخطئ، ويجب على
الأمة تقويمه إن أخطأ، ولا يجوز إحاطته بهالة من القدسية.
3- يمنح الإسلام الحرية السياسية للشعوب، ويراها
صاحبة السيادة في اختيار الحاكم الذي يحكمها والمرجعية التي تتحاكم إليها.
وهذا
يعني أنه إذا اختارت غالبية الشعب –بحرية ورضا- الشريعة الإسلامية لتكون المرجعية
التي يتحاكمون إليها، وهذا الاختيار يكون بحرية، ونابعًا عن رضا، فهذا يعني أنه
ارتضى التحاكم إلى دستور إسلامي وقوانين إسلامية، فلا يجوز لأحد بعد ذلك أن يفتئت
على الأمة، أو يفرض عليها ما يناقض مرجعيتها الدستورية ويعارضها.. وإنْ اختارت شيئًا غير المرجعية الإسلامية، فيجب احترام خيارها، ولا
يجوز قهرها وإجبارها بشيء لا تؤمن به، بغضّ النظر عن الموقف الشرعي من هذا
الاختيار.. يبقى خيارها، وهي مسؤولة عنه أمام الله وأمام التاريخ!! وحينها ليس أمام العاملين
في حقل الدعوة الإسلامية إلا استخدام التغيير السلمي القائم على الوعظ والإرشاد،
والحوار بالحسنى، وعليها استخدام كافة الوسائل السلمية المتاحة في إقناع الناس
بالإسلام.
فالإسلام يرفض
أن تأتي فئة لتخطف السلطة من الجماهير، فلا بد أن تكون إرادة الشعوب حاضرة في كل
تصرف، ففي وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ: "إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا
مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ
وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ.."([6]) لم يذهب معاذ رضي
الله عنه إلى اليمن لكي يؤسس تنظيمًا سريًا، ويحدث انقلابًا عسكريًا ويخطف السلطة،
ثم يكره الناس على تطبيق الشريعة قسرًا، وإنما ذهب داعيةً وبشيرًا ونذيرًا.. ذهب
بمبدأ (فإن هم أطاعوك لذلك)، لهذا آمن آهل اليمن، ودخلوا في عموم المسلمين من دون
إكراه أو إجبار، وحينما انتقل رسول
الله عليه الصلاة والسلام إلى المدينة إنما دخلها وفق مبدأ التعاقد من خلال بيعة
العقبة الأولى والثانية، ثم وثيقة المدينة، ولم يدخل وفق منهج التغلب([7]).
بإمكانك قراءة الجزء الأول:
الحرية وعلاقتها بتطبيق الشريعة [الحلقة الأولى]
بإمكانك قراءة الجزء الأول:
الحرية وعلاقتها بتطبيق الشريعة [الحلقة الأولى]
[6])) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع
الإسلام، حديث رقم: 29، من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه.
تعليقات
إرسال تعليق