الحرية وعلاقتها بتطبيق الشريعة. [الحلقة الرابعة والأخيرة]
الحرية
وعلاقتها بتطبيق الشريعة.
[الحلقة
الرابعة والأخيرة]
نور رياض عيد
[قدمت
هذه الورقة لليوم الدراسي الذي بعنوان: فقه الحريات، الذي نظمته كلية الدعوة بدير
البلح]
أولوية الحرية..
إن إعادة
الحرية للشعوب يجب أن تكون من أولى أولويات العاملين لتطبيق الشريعة الإسلامية،
وذلك لأن ترك الظالمين يعيثون في الأرض فسادًا هو إيذان بهلاك الأمة، وقد قال عليه
السلام: " إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى
يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللهُ بِعِقَابِهِ"([1])، وأي ظلم أعظم من اغتصاب حرية الشعوب؟! أي ظلم أكبر من أن يُسرق
حق الشعب في اختيار الحاكم الذي يعبر عن إرادة الناس؟! لذلك؛ فإن الاستبداد منكر
سياسي عظيم يجب أن تجتمع الجهود للتخلص منه.
وإن أي
إصلاح تسعى إليه الحركات الإسلامية يجب ألا يكون على حساب حقوق البشر، وتقييد
حريتهم، وإن الذين يحملون دين الحق ينبغي ألا يخافوا من الحرية، فإن "باب
الحرية إن فتح للجميع فالنصر في نهاية الطريق الطويل للإسلام، لأن البقاء للأصلح..
ويُماز الخبيث من الطيب، فأما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في
الأرض.. وإذا أقفل باب الحرية، فالخاسر هو الإسلام لأن
شجرته لا تنمو في غياب الحرية"([2]).
تقييد صلاحيات الدولة:
إذا جاء النظام
الحاكم عن طريق بيعة شرعية، وانتخابات حرة ونزيهة، فهذا لا يعني أنه يجوز له أن يتغول
على حريات الناس وحقوقهم، فالأصل في الشريعة الإسلامية أن العقاب أُخروي، وأن الذي
يحاسب الناس هو رب الناس، ويجب أن توضع حدود لتصرفات الدولة، فلا تطلق يدها لتفعل
ما تشاء، فالدول المحترمة هي التي تقيد السلطة وتحاصرها ليقتصر دورها على أشياء
أساسية محددة، وفي هذا الصدد يحسن أن نشير إلى الأمور التالية:
1-
لقد أكد الفقهاء أنه ليس من صلاحيات الدولة
ملاحقة المنكرات الخفية المقتصرة على أصحابها، فليس لها أن تتجسس على بيوت الناس،
وأن تعد عليهم أنفاسهم، إلا إذا علمت بمنكرات تضر بالأمن أو الصالح العام، فَعنْ
زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ قَالَ: أُتِىَ ابْنُ مَسْعُودٍ، فَقِيلَ: هَذَا فُلاَنٌ
تَقْطُرُ لِحْيَتُهُ خَمْرًا، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: "إِنَّا قَدْ نُهِينَا
عَنِ التَّجَسُّسِ، وَلَكِنْ إِنْ يَظْهَرْ لَنَا شَيءٌ نَأْخُذْ بِهِ"([3])،
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن عَوْفٍ: حَرَسْتُ لَيْلَةً مَعَ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ رضي الله عنه بِالْمَدِينَةِ إِذْ تَبَيَّنَ لَنَا سِرَاجٌ فِي بَيْتٍ
بَابُهُ مُجَافٍ عَلَى قَوْمٍ لَهُمْ أَصْوَاتٌ مُرْتَفِعَةٌ وَلَغَطٌ، فَقَالَ
عُمَرُ: هَذَا بَيْتُ رَبِيعَةَ بْنِ أُمَيَّةِ بْنِ خَلَفٍ، وَهُمُ الْآنَ
شُرَّبٌ فَمَا تَرَى!؟ قُلْتُ: أَرَى أَنَّا قَدْ أَتَيْنَا مَا نَهَى اللَّهُ
عَنْهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:) وَلا تَجَسَّسُوا..([سورة
الحجرات: من الآية 12] وَقَدْ تَجَسَّسْنَا، فَانْصَرَفَ عُمَرُ وَتَرَكَهُمْ([4])،
وقد نقل الإمام ابن مفلح عن الإمام الخلال قوله: "وأما
من سكر أو شرب أو فعل فعلًا من هذه الأشياء المحظورة، ثم لم يكاشف بها، ولم يلق
فيها جلباب الحياء، فالكف عن أعراضهم، وعن المسلمين، والإمساك عن أعراضهم، وعن
المسلمين أسلم"([5])،
وعلى الدولة أن تفهم أنه كلما زاد تدخلها –بالجانب السلطوي والرقابي- فإن هذا يدل
على فشلها.
2-
إن السلطة يجب أن تكون
محايدة مستوعبة للاختلاف والتعدد في القضايا التي تحتمل الخلاف، وإن إلزام الدولة
للناس برأي معين في القضايا الخلافية لا يجوز إلا في نطاق ضيق، وذلك إذا وجدت
مصلحة عامة راجحة، وذلك في الأمور التنظيمية كالحقوق والتعاقدات والحدود، بخلاف
الأمور المتعلقة بالسلوك الفردي، وأما الأمور المتعلقة بالجانب الأخلاقي
والإيماني- وهو الجانب الأكبر- الذي يمارسه الفرد بقرار شخصي، من دون فرض خارجي على
إرادته، بعيدًا عن سلطة الدولة، فليس كل حكم شرعي لازم من حيث الديانة، يكون
لازمًا من حيث القانون والفعل السياسي السلطوي([6])، وقد قال العلماء الذين كتبوا في الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر عن المسائل الاجتهادية المختلف فيها، بأنها: "لا تُنْكَرُ باليد وليس
لأحدٍ أن يُلْزم الناس باتباعه فيها؛ ولكن يتكلم فيها بالحُجج العلمية فمن تبين له
صحة أحد القولين تبعه، ومن قلّد أهل القول الآخر فلا إنكار عليه"([7]).
3-
إن الإسلام يحترم أعراف
الناس، وعاداتهم، وتقاليدهم، وهو لا يدعو الناس لتغييرها إلا ما كان يحمل مخالفة
شرعية، فالإسلام لم يأتِ ليفرض على الناس صورة محددة لعادات الطعام والشراب
واللباس، إنما وضع ضوابط عامة محدودة، ثم ترك الناس أحرارًا ليلبسوا ويشربوا
بالطريقة التي يرتاحون لها.. وهذا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يلبس لباسًا يخالف قومه، فكان
"هديه في اللباس أن يلبس ما تيسر من اللباس"([8]).
4-
ينبغي على الدولة أن تعلم
أن دورها ليس دورًا عقابيًا سلطويًا، فالمفترض في الدولة التي يقف على رأسها
مسلمون غيورون ألا يعتمدوا على القوة في غرس الفضائل وحماية القيم، بل عليهم أن
يهتموا بالإعلام، والتربية، والتثقيف، وأن يوسعوا من دور الوزارات والمؤسسات التي
تقدم دورًا تربويًا كوزارة التربية والتعليم، ووزارة الثقافة ووزارة الأوقاف
وغيرها، هذه المؤسسات التي تساهم في نشر القيم والأخلاق بالحكمة والموعظة الحسنة.
5-
إن وجود نظام حاكم يسعى
لتطبيق الشريعة، لا يعني أنه لا يخطئ، وطالما وجد الخطأ فلا بد من وجود أصوات
ناقدة حتى يصحح المسار، وفي المجتمع الناضج يقوم المجتمع بدوره في تصحيح أخطاء الدولة
عن طريق المفكرين، والمثقفين، والسياسيين، والحكماء عمومًا، هؤلاء هم الضمير الواعي
الموجه الذي يستطيع أن يبصر الدولة بأخطائها وزيغها عن طريق المصداقية.. وكثير من رجال
الدولة يحيطون أنفسهم بمجموعة من المفكرين وذوي الرأي، لا ليخططوا، ولكن ليصوبوا التخطيط،
ويوجهوا رجل المسؤولية حتى يحتفظ بمصداقيته، وهو يقوم بمسؤوليته، ومصداقية الدولة التي
يقوم بالمسؤولية فيها([9]).
[1] مسند أحمد، بإسناد صحيح على شرط الشيخين.
[2] تشخيصات ووصايا
للحركة الإسلامية المعاصرة: د. حسان حتحوت، ص 72، وهي عبارة عن ورقة منشورة ضمن
كتاب الحركة الإسلامية رؤية مستقبلية.
[3] سنن أبي داود، حديث رقم: 4890، وقال الألباني: صحيح الإسناد.
[4] تفسير القرطبي: القرطبي، (16/333).
[6] انظر: سيادة
الأمة قبل تطبيق الشريعة: عبد الله المالكي، ص(60-70).
[8] زاد المعاد في هدي خير العباد: ابن القيم، (1/138).
تعليقات
إرسال تعليق