الحرية وعلاقتها بتطبيق الشريعة الإسلامية [الحلقة الأولى]

الحرية وعلاقتها بتطبيق الشريعة الإسلامية
[الحلقة الأولى]
                                                                                                  نور رياض عيد 
                                               
[قدمت هذه الورقة لليوم الدراسي الذي بعنوان: فقه الحريات، الذي نظمته كلية الدعوة بدير البلح، وسأنشرها على حلقات]                                                              
تمهيد:
لقد كان الصحابي الجليل ربعي بن عامر رضي الله عنه مدركًا كل الإدراك لأهداف الرسالة وغاياتها التي جاء يبشر الناس بها، وذلك حينما أجاب عن سؤال رستم ملك الفرس: ما جاء بكم؟ فقال: "الله ابتعثنا، والله جاء بنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام"([1])، فهو يعلم أن وظيفة الجيش المسلم تحرير الناس، وليس استعبادهم.
وتعد قضية الحرية من أهم القضايا وأكثرها التي تطرح في الوقت الحالي، وهذا يوجب علينا –نحن المسلمين- أن تكون لدينا إجابات واضحة حول الحرية، خاصة تلك الأسئلة التي تتعلق بالحكم الإسلامي وتطبيق الشريعة الإسلامية، وصورة الدولة الإسلامية التي نريدها.
أسئلة تحتاج إلى إجابات واضحة:
-        هل تطبيق الشريعة الذي يسعى إليه المسلمون هو التطبيق الذي يفرض على الناس بالإكراه؟
-        إذا كانت الغالبية من سكان دولة ما ترفض الدين، وتضمر العداوة له، لكن السلطة الحاكمة تُكرههم على ذلك، فهل هذا تطبيق يسعى الشرع إلى تحقيقه؟
-        هل يجوز للسلطة الحاكمة أن تفرض على الشعب المسلم رأيًا، أو مذهبًا معينًا من المذاهب الإسلامية في كل تفاصيل حياته؟
-         هل يهدف الإسلام إلى صناعة مجتمع منافق يتظاهر بالإسلام، والالتزام خوفًا من السلطة الحاكمة، لكنه يبطن الكفر، والفسوق، والانحلال، وخراب الضمير؟
-        هل يقبل الشرع الحكيم بصناعة مجتمع يلعن حاكميه، ويتمنى موتهم والتخلص منهم؟
-        إذا كانت الغاية لا تبرر الوسيلة في الإسلام، فهل الوصول إلى الحكم الإسلامي بوسيلة القمع والإكراه يعد جائزًا؟
لا إكراه في الدين، والسياسة:
إن أهم مشكلات العالم اليوم -كما يقول المفكر الإسلامي جودت سعيد- مشكلتان، هما: مشكلة الحرية الفردية الداخلية التي يسمونها (حرية العقيدة)، ومشكلة حرية المجتمعات التي يسمونها (الديمقراطية)، والإسلام جاء بـ (لا إكراه في الدين): أي لا إكراه في العقيدة، وبلا إكراه في السياسة، أي أن للمجتمعات الحق في أن تصنع سياستها برضاها([2])، وإن حرية الاعتقاد في الإسلام نصت عليها آيات محكمات، منها قوله تعالى: )وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُر..( [سورة الكهف: من الآية 29]، )لَا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَي.. ( [سورة البقرة: من لآية 256]، )فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ* لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِر( [سورة الغاشية: الآيتان 21، 22]، ومن المعلوم أن الإيمان يبدأ من القلب، فإذا أظهر المرء الإسلام، وأبطن الكفر؛ فإن إيمانه لا يعد إيمانًا صحيحًا، فالإيمان القائم على الإكراه لا وزن لصاحبه عند الله.
وقد جاءت )لَا إِكْراهَ فِي الدِّينِ.. (لتمهد الطريق إلى (لا إكراه في السياسة) وذلك لأن الساسة المستكبرين كثيرًا ما يستخدمون الدين ستارًا للاعتداء على الناس، ووسيلة لتدمير الإنسان، فجاء الدين ليحرم الإكراه الديني؛ ليقطع الطريق أمام الإكراه السياسي([3]).
إن منح الشعوب حريتها السياسية في اختيار حكامها وقادتها تعد شيئًا أساسًا في الإسلام، حتى جعلت المسلمين يُجمعون إلى حد كبير على أن الرشد قد انتهى بعد الخلفاء الأربعة، ولم يعد هناك خلفاء راشدون، لماذا؟ لأن هؤلاء الأربعة قد أخذوا الحكم بغير عنف، وبغير استخدام السيف، وكذلك لم يجعلوا الحكم وراثة في أبنائهم([4]).
الإسلام عقيدة وشريعة..
إن الإسلام وهو يمنح الحرية السياسية للشعوب، لا يعني أنه يحصر نفسه في دائرة التدين الفردي فقط، فالإسلام عقيدة وشريعة، والعقيدة هي الأصل الذي تبنى عليه الشريعة، والشريعة أثر تستتبعه العقيدة، ومن ثَمَّ فلا وجود للشريعة في الإسلام إلا بوجود العقيدة، كما لا ازدهار للشريعة إلا في ظل العقيدة، ويرفض الإسلام أن تنفصل العقيدة عن الشريعة، فمن آمن بالعقيدة، وألغى الشريعة، أو أخذ بالشريعة وأهدر العقيدة، لا يكون مسلمًا عند الله، ولا سالكًا في حكم الإسلام سبيل النجاة([5]).
الإسلام دين ودولة..
إن إقامة الدولة ضرورة إنسانية تعارف عليها عقلاء العالم منذ القدم، وتطور شكل الدولة مع تطور البشرية، وإذا كان الإسلام عقيدةً وشريعةً، فهو سيكون دينًا ودولةً، ولأن الشريعة جاءت لإصلاح الحياة وإسعاد الناس؛ فإنها دعت لإقامة دولة للمسلمين تساهم في تحقيق هذه الغاية، وقد انعقد الإجماع على وجوب انقياد الأمة لإمام عادل يقيم فيها أحكام الدين([6])، وذلك لأنه لا يمكن تنفيذ أحكام الشرع -التي تحقق للناس سعادتهم ويحيون في ظلالها حياة الأمن والاستقرار في جميع شؤون الحياة- دون وجود دولة تعمل على تنفيذها([7])، والقاعدة تقول: "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب".
ومن يظن أن الإسلام يمكن أن يقام دون دولة؛ فهو لم يفهم حقيقة الإسلام، فقيام دولة للمسلمين ضرورة لا تؤكدها نصوص القرآن، والسنة، وسيرة الرسول r، وخلفاؤه، فحسب؛ بل إن طبيعة الرسالة الإسلامية نفسها تحتم أن تقوم للإسلام دولة أو دار، يتميز فيها بعقائده، وشرائعه، وتعاليمه، ومفاهيمه، وأخلاقه، وفضائله، وتقاليده، وتشريعاته([8]).




[1])) تاريخ الطبري: الإمام محمد بن جرير الطبري، (3/520).
[2])) انظر: مفهوم الجهاد في ضوء الحرية الفكرية والسياسية: جودت سعيد، ص 52، 53، وهذه الكلمة منشورة ضمن ندوة: الحوار سبيل التعايش مع التعدد والاختلاف: محمد البوطي، محمد شمس الدين، جودت سعيد، محمد سالم.
[3])) دور حرية الرأي في الوحدة الفكرية بين المسلمين: د. عبد المجيد النجار، ص 10، والكلام للدكتور طه العلواني في مقدمة الكتاب.
[4])) انظر: مفهوم الجهاد في ضوء الحرية الفكرية والسياسية: جودت سعيد، ص 52، 53.
[5])) انظر: الإسلام عقيدة وشريعة: محمود شلتوت، ص 11.
[6])) انظر: الفصل في الملل والأهواء والنحل: ابن حزم، (4/72). 
[7])) انظر: الدولة الإسلامية: د. كامل الدقس، ص 62.
[8])) من فقه الدولة: د. يوسف القرضاوي، ص 19. 

تعليقات

  1. مقال رائع جداً عن الحياة الزوجية الصامتة..
    لا يفوتكم ⬇⬇

    https://noslih.com/article/%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%8A%D8%A7%D8%A9+%D8%A7%D9%84%D8%B2%D9%88%D8%AC%D9%8A%D8%A9+%D8%A7%D9%84%D8%B5%D8%A7%D9%85%D8%AA%D8%A9

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

السخرية من سن التسعين!!

إيثار.. لا يخطر على بال!!

هل يجوز رفع صوت الراديو بالقرآن الكريم إذا كان يؤذي الجيران؟